الابتكار الاجتماعي
دمج البصائر السلوكية في القطاع غير الربحي: الدوافع والمكتسبات

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 13

دمج البصائر السلوكية في القطاع غير الربحي: الدوافع والمكتسبات

   د. عبد القيوم بن عبد العزيز بن محمد

 بعد عقود من استثمار وحدات القطاع الخاص لرؤى الاقتصاد السلوكي في تحقيق مستهدفه الرئيس «تعظيم الأرباح» التفت صناع السياسات العامة خلال العقدين الأخيرين إلى مقولات مدرسة الاقتصاد السلوكي، واستُخدِمت أدواته ورؤاه أداةً مكملة للنهج التقليدي في صناعة السياسات وتنفيذها.

تقدم مدرسة الاقتصاد السلوكي وعوداً بإمكانية رفع كفاءة البرامج العامة، وتعظيم مستوى الإفادة منها، وتقليص الهدر المالي، وتحسين الامتثال والالتزام بالسياسات والسلوكيات المنشودة، من خلال فهم أدق وأعمق لواقع السلوك متناهي الصغر للوحدات، ومراعاة مجموع ما يؤثر في سلوكها واختياراتها، وتوظيف تلك المعارف في صناعة السياسات وتنفيذها. 

تُظهر دراسات وتقارير محلية وإقليمية وعالمية، وفاء الاقتصاد السلوكي بوعوده في عدة تجارب استخدمت فيها أدواته ورؤاه، وأظهرت النتائج جدوى دمج رؤى الاقتصاد السلوكي كأداة مكملة للسياسات التقليدية. فعلى النطاق العالمي توظف المنظمات الإنمائية -على غرار الأمم المتحدة، ومجموعة البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وغيرها- رؤى الاقتصاد السلوكي لتحقيق مستهدفاتها التنموية، وأنشأ كل منها وحدات إدارية متخصصة في الاقتصاد السلوكي، صدر عنها مجموعة من البحوث والتقارير المؤكدة بمجموعها على أهمية مجابهة التحديات الاستثنائية والمتجددة التي تواجه العالم بمناهج وأساليب نوعية.

على نطاق الدول والحكومات تشير الخارطة الجغرافية لتوزيع انتشار وحدات الاقتصاد السلوكي -على موقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- إلى تنامي عدد الوحدات السلوكية التي بدأ تأسيسها في 2009 في كل من بريطانيا وأمريكا، ليتجاوز عددها 334 وحدة سلوكية حول العالم اليوم، تتبع القطاع العام، والخاص، وغير الربحي. 

وفي النطاق الإقليمي، ومع إطلاق دول مجلس التعاون الخليجي للرؤى الوطنية، يشهد الاقتصاد السلوكي نمواً مطرداً في الاهتمام من صانعي السياسات ومنفذيها. ويوضح الجدول الآتي وحدات الاقتصاد السلوكي في دول مجلس التعاون الخليجي: 

فإذا كان القطاع الخاص يوظف الاقتصاد السلوكي لتعظيم أرباحه، والقطاع العام بدأ يوظفه لتحسين الامتثال بسياساته، فإن القطاع الاجتماعي -ممثلاً بالأوقاف ومنظمات العمل الخيري وغير الربحي ومؤسسات المجتمع المدني- أدعى بأن يطور أعماله من خلال الانفتاح على مكتسبات الاقتصاد السلوكي، وذلك للمبررات والدوافع الآتية:

1. يتصدر هدف "التخفيف من حدة الفقر" سلم أولويات أهداف التنمية المستدامة، وللاقتصاد السلوكي رؤية متفردة في منهجية التعامل مع قضايا الفقر، فعلى جانب الخبراء وصانعي السياسات والمهنيين العاملين في مجال التنمية، أثبتت دراسات الاقتصاد السلوكي أن هذه الفئات مثل غيرها من الناس عرضة للتحيزات والأخطاء، التي يمكن أن تنشأ عن التفكير التلقائي والتصورات والمعتقدات المسبقة المؤثرة في سياق الفقر في توجيه خيارات السياسات، مما يجعل فحص النماذج الذهنية مقابل الواقع أمراً مهماً، وعلى المهنيين العاملين في مجال التنمية أن يكونوا أكثر وعياً بتلك التحيزات، كما ينبغي للمؤسسات أن تنفذ إجراءات للتخفيف من تأثيرها. في المقابل فإن الفقر ليس عجزاً في الموارد المادية فحسب، بل هو أيضاً سياق تُتخذ فيه القرارات. وقد يلقي الإدراك العاطفي عبئاً على أكتاف الأفراد، مما يجعل من الصعب عليهم بخاصة أن يفكروا بطريقة تدبرية. الأفراد الذين يضطرون لبذل جهد كبير من الطاقة الذهنية يومياً لضمان الحصول على الاحتياجات الأساسية، مثل الطعام والمياه النظيفة، يجدون أنفسهم بقدر من الطاقة الذهنية أقل مما يتوفر لأولئك الذين يستطيعون التركيز على استثمارات تجارية أو حضور اجتماعات لجان مدرسية، وذلك لأنهم يعيشون في منطقة تحتوي على بنية تحتية جيدة ومؤسسات قوية، كما تتزايد مخاوف اعتياد الأجيال الناشئة في الأسر والأوساط ضعيفة الدخل لنمط حياة وآلية تفكير معتادة لحالة الفقر، دونما أمل أو سعي لكسر حالة التقوقع في هذه الدائرة، ومجموع ما سبق يدفع بضرورة عدم الاقتصار على مقولات المدرسة التقليدية المقدمة لفرضيات: الإنسان الاقتصادي، الرشيد، الكفؤ، العقلاني، بل دراسة السلوك متناهي الصغر للفئات المستهدفة وتحليله، وفهم ذهنية المستفيد، ومن ثم تصميم سياسات صديقة ومتمحورة حول المستفيد.

2. يمثل حشد الموارد المالية والدعم اللازم تحدياً رئيساً أمام المنظمات التنموية، يستثمر الاقتصاد السلوكي فهمه لذهنية المستهدفين والعوامل التي تؤثر في سلوك التبرع، في تصميم استراتيجيات فعالة لزيادة التبرعات ورفع نسب التطوع والعطاء من خلال تطبيق المفاهيم الاقتصادية السلوكية، مثل: التسهيل، وجذب الانتباه، والتركيز على الجوانب الاجتماعية، وتحديد التوقيت المناسب للتبرع، والحفز عبر استثمار القيم والمبادئ الدينية والاجتماعية، وإعادة هندسة الخيارات، وغيرها من المفاهيم والأساليب.

تجربة محلية لتوظيف أدوات الاقتصاد السلوكي ورؤاه في العمل التنموي

ضعف الإقبال على التبرع بالأعضاء في مقابل الحاجة والطلب، مثَّل مشكلة عولجت في المملكة العربية السعودية عبر استخدام أدوات الاقتصاد السلوكي ورؤاه، وبتضافر جهود مجموعة من الجهات الحكومية، بداية نفذت دراسات استكشفت الواقع والممارسة المتبعة، تلاها إعادة تقديم برنامج التبرع بالأعضاء مستنيراً بأدوات الاقتصاد السلوكي ورؤاه، من خلال هندسة الخيارات بدءاً بإزالة البيروقراطية المعقدة وتبسيط إجراءات عملية التبرع، لتصبح واضحة وسهلة وجذابة ومقدمة عبر وسيلة ذكية شائعة الاستخدام «تطبيق توكلنا»، مروراً بتقديم القدوة الحسنة ومبادرة القيادة الرشيدة بالتبرع، مما أثمر في ارتفاع عدد المسجلين في التبرع بالأعضاء من 20 ألف متبرع، إلى 491 ألف متبرع في 2023م 

 الاقتصاد السلوكي يقدم أدوات ورؤى، يوظفها القطاع الربحي لتعظيم أرباحه، والقطاع العام لتحسين الامتثال بسياساته، وأمام القطاع غير الربحي مساحة عمل مشرعة للوقوف على منجزات مدرسة الاقتصاد السلوكي، واستثمار المناسب والمتسق منها في الخير والصالح العام.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...